لسى فاكر .. كان زمان .. .
لدى المهتمين والدارسين في علوم البرمجة اللغوية، والعصبية مصطلح يسمى ب "
خريطة الذهن " وهذا المصطلح يشير إلى كون أي إنسان في هذه الحياة يحمل
بداخله مجموعة من الأفكار ،والمواقف والمشاعر، والمنطق تجاه موقف محدد أو
شخص معين ، وهذه الخريطة الذهنية تحدد في الغالب السلوك الإنساني، وتوجه
ردود الفعل تجاه المواقف والأشخاص، وهذه الخريطة الذهنية غالبا ما تكون
بخلاف الحقيقة والواقع ومن هنا تنشأ ردود الفعل المتناقضة والمفاجئة وكذلك
سؤ الفهم والخلاف والاختلاف . فيحكى أن مسافرا جلس في صالة الانتظار بأحد
المطارات استعدادا للسفر وركوب الطائرة إلا أنه تفاجأ بإعلان إدارة المطار
بتأجيل رحلته إلى مدة ساعتين إضافيتين ، فقرر هذا المسافر الذهاب إلى متجر
قريب لشراء جريده وبسكويت من اجل قضاء هاتين الساعتين حتى يحين موعد رحلته
القادمة ، وحينما عاد إلى صالة الانتظار وجد هناك رجلا جالسا على أحد
المقاعد وبجانبه مقعدين خاليين من الركاب المسافرين ، فاتجه إليه وأستأذنه
في الجلوس بجانبه ، ووضع حقيبته على المقعد الآخر ، وفي أثناء انهماك
المسافر بقراءة الجريدة ، قام الرجل الآخر بفتح البسكويت وأكل قطعة منه ،
وقدم قطعة أخرى إلى صاحب الجريدة ، فأخذ منه قطعه البسكويت وهو ينظر إليه
باستغراب وخجل ، وفي كل مره كان هذا الرجل يتناول فيها قطعة من البسكويت
كان يقدم قطعة أخرى إلى صاحب الجريدة مما يزيده غيضا وضيقا، واستغرابا
وتوترا من بلاده حس هذا الرجل وثقل طبعه وقلة أدبه ، وحينما تبقت آخر قطعة
من البسكويت ، نظر الرجل إلى صاحب الجريدة بطيبة ومودة وقسم قطعة البسكويت
الأخيرة بينه وبين صاحب الجريدة ، وقدمها إليه وهو يبتسم بكل رقه وأدب ،
فما كان من صاحب الجريدة إلى أن أخذ نصف هذه القطعة المتبقية من البسكويت
ورماها في الأرض ، ورفع صوته على الرجل ووصفه بقلة الأدب والذوق
والاحترام، ثم نهض من مقعده بغضب وحمل حقيبته وأنصرف بينما الرجل ينظر
إليه بحيرة واستغراب وتعجب وكأنه لا يفهم ما الذي يحدث ، وأبتعد صاحب
الجريدة لعدة خطوات ثم توقف وفتح الحقيبة ليضع الجريدة بداخلها ، فوجد
البسكويت الخاص به ، كما هو ، لم يلمس ولم يفتح ، جديدا كما اشتراه ،فأحس
الرجل بالخجل والألم والندم ، والتفت إلى الرجل الآخر بانكسار وأسى وحاول
أن يرجع إلى الرجل ليعتذر منه ، لكن الرجل الآخر نظر إليه في حزم وعزم
ووقف من مقعده ، وأتبعه بنظره أخرى مليئة بالحزن العميق ، والشجن الرقيق ،
وكأنه يقول له : فات أوان الاعتذار . ثم انصرف إلى الباب الخارجي الذي
يؤدي إلى سلم الطائرة بينما وقف صاحب الجريدة حائرا ، تائها ، ضائعا ،
وافترق كل منهما وهو يحمل بداخله جرحه الخاص وحزنه الخاص وعذره الخاص
........
هذه الحكاية المؤلمة التي تفتح الجرح ثم لا تخيطه وتنثر عليه الملح ولا تضمده ..
تجعلني أتسائل بغصة موجعة ، وبحة مفجعة :
كم من حبيب ظلمناه وجرحناه لأننا لم نفهمه ولم نعرف سبب تصرفه وسلوكه فذبحناه من الوريد إلى الوريد واتهمناه بالغدر والخيانة ؟
كم من صديق غال تركناه في طرقات الوحدة والوحشة لأننا اكتفينا بخريطتنا
الذهنية التي تكونت لدينا ،ولم نلتمس له العذر ورميناه برصاص كلمات
الإساءة، وعبارات الإهانة والتجريح ؟
ولا أدري لماذا أرهفت سمعي لصوت كوكب الشرق أم كلثوم وهي تشدو ب :
" لسا فاكر
قلبي يدي لك أمان
لسا فاكر
كلمة حا تعيد اللي كان
وإلا نظره توصل الشوق والحنان
لسا فاكر
كان زمان .. كان زمان
لسا فاكر .. كان زمان "
وأسائل نفسي بمرارة وحرارة :
أي جرح هذا الذي يجعل أي إنسان يقف مثل هذا الموقف في هذه الأغنية ، ليوصد
كل أبواب القلب أمام كل الطرق التي تؤدي إلى الماضي والذكريات، والعودة من
جديد للحب والوصل واللقاء ..
أليس ذلك سببه الظلم الذي لا يندمل جرحه أبدا.............
أليس ذلك مرده إلى القسوة التي تنطبع كوشم فرعوني وللأبد .........
فأبحث يا صديقي عن الظلم خلف كل نهاية مؤلمة
وفتش يا صديقي عن الجهل خلف كل حكاية مفجعة
وستضع يدك حتما على الجرح والجراح والجارح والمجروح